قصة — فتاة المقهى – الجزء الأول
كانت يانعة متفتحة مثل زهرة زارها الندى ليلا فكأن الندى حاول مواستها بعد يوم ربيعي طويل جميل، كانت في ربيعها السادس عشر يوم قابلتها مصادفة، دون موعد مسبق ولا لقاء مرتب ولا حتى معرفة سابقة، كانت نحيفة الجسد متناسق مع طولها المتوسط، تبادلنا النظرات، لم أدري أن تلك النظرات يوما ما ستحطم قلبي وتسرق مني حياتي واستقلالي، أجل استقلالي! الذي طالما كان مفخرتي الوحيدة، قبل تلك النظرات كنت أقضي أوقاتي كما يحلو لي، افكر بمستقبلي، أي كتاب سأقرأه بعد هذا، أي مقال سأكتب بعد هذا، وأي منشور سأنشر وأي بوست سأضع عليه تعليقا.
كانت هذه حياتي مستقلة تسير كما أهوى وكما أحب، ملتزم بواجباتي تجاه ديني أدي صلواتي في مواقيتها وأقرأ وردي من القرأن والأذكار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، باراً بأسرتي وأخوتي أتفقد أحوالهم بين الفينة والأخرى، أتصل بوالدتي كل يوم وأسألها أن تدعو الله أن يوفقني. كنت لا أبالي بمشاعر اصدقائي الذين يحدوثوني عن الحب وعذابه، وأنهم يقضون الليل هُجداً يستعيدون ذكرى أحاديثهم مع من يحبون كما تتجر الأنعام طعامها ليلاً.
-غيداء بادرتني بالسلام ومدت إلي يدها، فشعرت أن هناك ثمة تعارف قديم بيننا.
– سمير فرددت التحية بأحسن منها.
جرى كل ذلك في ثواني لم أجرأ خلالها أن ارفع نظري عن الأرض، إذ ليس من عادتي أن أنظر في وجوه من لا إعرفهم معرفة حقة لا سيما السيدات. درجة الثقة بنفسي لا تؤهلني لكي أنظر بتمعن في وجوه الغرباء.
لم تكن لي علاقات غرامية سابقة مع الجنس الآخر سوي بعض صداقات مع صديقات الطفولة وزميلات الدراسة، فعلاقتي مع زميلات الدراسة لم تخرج عن إطار الدراسة ومواضيعها المملة، أما صديقات الطفولة ففرقتنا الحياة اغلبهن تزوجن واصبحن أمهات لهن أزواج وأطفال ومسؤليات تشغلهن، فبعضهن يقطن في نفس الحي وبعضهن ساقته الأقدار خارج أسوار المدينة وبعضهن رمت بهن المقادير خارج حدود الوطن. هذه طبيعة الحياة الفراق اخر شيء تتوقعه لكنه واقع لا محالة، فعلاقتي معهن كانت دائماً كعلاقة أخ أقرب منها من أي شيء اخر، أقابلهن أحياناً في مناسبات الحي سواء كانت أفراح او أتراح لا يزيد الحديث معهن عن سؤالهن عن اولادهن وكيف تسير بهن الحياة وسؤالهن عن الصديقات الأخريات، فهذه لديها ثلاث أطفال وهذه كذا وتلك كذا…ألخ. ويسألنني عن حالي لماذا لم أتزوج إلى الآن؟ وماهو السبب المانع؟ ويعرضن علي عدد من الاسماء ويعددن محاسنهن لكن لا يجدن أذناً صاغية. أصادفهن حيناَ اخر في مواقع التواصل الاجتماعي وارسالهن عبر الواتساب والماسنجروأعلق على صور أطفالهن في فيسبوك. أما زميلات الدراسة فلا أقابهلن أبداً في الواقع إلا نادراَ، فأغلب لقائتنا عبر مجموعات الواتساب والفيس بوك لاغير.
هل لك في كوب قهوة؟
كانت دائماً هي المبادرة، فأنا شخص حساس لدرجة ضارة لا أحب أن أفرض وجودي أو حتى رأي على الاخرين. من أين عرفت أني أحب القهوة وفي هذا التوقيت بالذات، فأنا اتناول قهوتي منتصف النهار أو بعده بقليل على عكس الذين يحتسونها صباحاً. ولما لم تقل كوب شايا مثلا أو كوب عصير لا سيما الوقت ظهراً والنهار قائظ كالعادة فالعصير أنسب من القهوة أو الشاي، أما أن الأمر محض مصادفة لاأكثر.
لما لا رددت قائلاً.
جرى لقائنا ذلك في مقهى قرب المعهد الذي ندرس فيه اللغة الإنجليزية، كان مقهاً أنيقاً هادئاً، مليئة بالطاولات الحديثة المصنوعة من خشب الموسكو المستورد من روسيا، كانت الطاولات بنية اللون مع لمعان شديد يتفاعل بشدة مع الإضاءة الساقطة من سقف المقهى، كل طاولة يتحلق حولها خمسة أو اربع كراسي، جميع أنواع الكراسي مطلية بلون هو أقرب إلى البني حسب معرفتي بالألوان، ربما لو وصفتها هي لقالت إنه بصلي محروق أو ماشابه، هناك طاولات ثنائية أيضاً توجد طاولات كبيرة تتسع لعشرات الأشخاص غالباً ما يتحلق حولها الشباب يتحادثون عن السياسة وكرة القدم، وطاولات أخرى أحادية الكراسي، متجهة نحو الحائط، يبدو أن صاحب المقهى شخص ذو احساس مرهف وذوق عالي يحترم خصوصيات الاخرين وكل الأذواق.
فهناك أناس يهتمون بأدق التفاصيل التي تخص راحة الآخرين أو كما يظنون ويفعلون ذلك بشكل عفوي، فمثلاً تجدهم في الأماكن العامة يساعدون هذا وينصحون ويأمرون ذاك ويتدخلون في أشياء ربما لا تعنيهم بشيء لكنهم يفعلون ذلك بدافع فعل الخير والنية الحسنة وهؤلاء هم أكثر الناس تعاسة وشقاوة في الحياة، إذ تجدهم يحزنون مع الحزانى ويبكون مع المكلومين ويحملون أنفسهم فوق طاقتها، يبدو أن صاحب المقهى من طينة أولئك الأشخاص.
فتاة المقهى
يقدم المقهى القهوة السودانية السوداء ذات البن المحمص التي غالباً ما يغلى معها الزنجبيل أو الجنزبيل كما يقول السودانيون، وهي المشروب الرئيس في المقهى بجانب القهوة بالحليب المسكافي أو القهوة الفرنسية والشاي الأحمر والأخضر. سابقاً كان زوار المقهى من فئة كبار السن وموظفيي الخدمة المدنية والتجار وبعض ضباط الجيش وعدد يسير من الشباب وطلاب الجامعات، كانوا مقسمين بصورة غير مقصودة إلى مجموعات فهناك الذين يتحدثون عن السياسة وحال البلد والسياسة الخارجية وامريكا وفلسطين واسرائيل، وعن اخبار الفن والفنانين والشعراء والأدب العربي، واخرون عن السوق واسعاره والعملات الأجنبية وهم التجار والرياضيون يثرثون حول الكرة القدم خاصة الهلال والمريخ ولا شأن لهم بالكرة العالمية. مجموعة السياسة والأدب هي أكثر هذه المجموعات ثقافةً وحضارة وغالباً هم من سكان المدن أو ممن درسوا في المدن. وهناك مجموعات أخرى تتناقش في كل هذه المواضيع، بصورة أو بأخرى يعكس المقهى طبيعة المجتمع السوداني إذ من العسير أن يتفقوا على شيء محدد أو إيجاد حتى قواسم مشتركة بينهم فدائماً يتناحرون ويتقتالون بدون حتى معرفة سبب الشجار أو القتال كان ذلك في فترة ما.
مواضيع قد تنال اعجابك:
قصة — فتاة المقهى – الجزء الأول