StockCake-Cafe-Contemplation-Moment_1720456769-574x1024 فتاة المقهى --- الجزء الثاني

فتاة المقهى — الجزء الثاني

أما الآن فرواد المقهى هم الشباب والطلاب من مختلف الإتجاهات فعلى النقيض من الرواد السابقين فهؤلاء يمثلون كتلة واحدة يتحدثون عن السياسة لكن بفهم وتصور مختلف كلياً عن السابقين، فهم يحلمون بوطن يسع الجميع ويضم جميع الأعراق، وطن يسوده حكم القانون وتكون فيه المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات، يريدون أن يروا وطناً ديمقراطياً متقدماً مثلما للأخرين أوطاناً متقدمة، ويحلمون بوطن رائد لايهم من يحكمه ولا كيف يحكمه يشغلهم المستقبل أكثر من ما يشغلهم الواقع يتناقشون في قضايا الأدب العربي والعالمي والسوداني يتجادلون في إخوة دستويفسكي ومقامره وعن أليف شفق وشرفها وقواعدها الأربعون وعن هاري ستاو وعمها توم وعن مصطفى السباعي وطريقه المسدود وعن علي باكثير وملحمته الكبرى وباولو كويلو وماتا هاري وغيرهم.

ويتحدثون عن الكرة العالمية بعد أن ساقهم اليأس من الكرة المحلية فاحتموا من لظى خيباتها بالكرة العالمية فهم يتحدوثون عن ميسي ورنالدو وريال مدريد وبرشلونة وبايرن ميونخ ومولر والريدز وجيرارد والشياطين الحمر وروني واليوفي وميلان وغيرهم الكثير.

وبعد صمت طويل صاخب غيم علينا، أشارت إلى طاولة ثنائية شبه مضاءة، حيث تنعكس أضواء المقهى الساقطة على تلك الزواية بشكل غير متناسق مما اعطى الطاولة شكلاً جميلاً وغامضاً في نفس الوقت.

بعد تردد وارتباك فطري، فهذه أول زيارة لي لمقهى ومع سيدة باالكاد أعرفها، فدائما ما احتسي قهوتي في المنزل، فتظاهرت بالثبات وثقة بالنفس، فسحبتُ أحد الكراسي، بينما ذهبت غيداء إلى صاحب المقهى وأتت تحمل كوبين قهوة في يديها الأثنتين ومحفظتها تكاد تسقط من كتفها الأيمن لتلامس الأرض، فأسرعت وأمسكتُ بالمحفظة، وواصلت هي سيرها تجاه الطاولة الثنائية. 

ارتسمت على وجهي ملامحي الدهشة والحيرة، فعادة الناس يذهبون إلى هذه الأماكن لكي يحظوا بالخدمة لا أن يخدموا أنفسهم.

فبادرتها متسائلاً، لِما كل هذا العناء ألا يوجد نادلاً هنا؟

فاجابت باستغراب على سؤالي قائلة:

لا يوجد نادل في هذا المقهى وهذه من أحدى الأشياء التي أسرت إعجابي بهذا بالمقهى.

وأردفت على نحو توكيدي، فأنا شخصياً لا أحب أن يخدمني أحد، وأن مالك المقهى هو من يصنع القهوة والمشروبات الأخرى.

-أهذا كل م هناك ليس هناك نادل يخدمك؟

-أليس هذا سبباً كافياَ لعشق هذا المكان؟ أم تراه سبباَ تافهاً واهياً؟

-لا أقصد الاستهتار والتهكم سيدتي، فالبعض يعشقون الأماكن لمجرد أنها تذكرهم بأشياء وبأشخاص غالين، وبعضه يعشق روائح معينة لأنها ترتبط بأشياء عزيزة عليهم، لكن أن تعشق مكاناً لمجرد أن ليس هناك احد يقدم فهذا أمر كبير على فهمي وادراكي وفلسفة لا يفقها الكثيرون.

كيف وجدت طعم القهوة؟ قالت ذلك وهي تسرح بخيالها وتنظر إلى فتاة وشاب يقفان في مدخل المقهى كانت الفتاة ترتدي تنورة قصيرة بيضاء وبنطال جينز أزرق أو سماوي وتنتعل حذاء سبورت أبيض.

كان اسم المقهى هو free mind، يملكه العم طارق الذي أمضى جل شبابه متنقلاً بين الدول الأوربية والولايات المحتدة حيث درس الآداب بجامعة القاهرة فرع الخرطوم ومنها انتقل لدراسة الأدب الإنجليزي في أكسفورد بعدها إنتقل إلى الولايات المتحدة حيث درس العلاقات الدولية والعلوم السياسية، وعمل أستاذاً مشاركاً في جامعة بوسطن، كما عمل في عدد من المنظمات الدولية ومعاهد العلاقات الدولية، وكاتباً راتباً في عدداً من الصحف العالمية، إلا أنه في النهاية فرغ حياته لدراسة خاصة الغربي والأمريكي. حاول في العديد من المرات إلي العودة إلى البلاد والاستقرار فيها. ربما من غير المألوف أن رجلاً مزدحماُ بهذا القدر المعرفي الضخم مثل العم طارق أن يكون صاحب مقهاً ويعد المشروبات ويقدمها بنفسه فهذا امر لا يصدقه من يملك مثقال خردل من عقل، أن يكون صاحب مكتبة أو بروفسور جامعياَ  ربما، لكن أن يكون صانعاً ونادلاَ للقهوة هذا لا يحدث إلا في بلداً يقدم فيه الولاء السياسي والقبلي على الكفاءة والمعرفة، ربما كان العم طارق ممن سئم حياة التنعم والرفاهية فأراد أن يقوم بفعل مغامرة لم يقم بها احد قبله، أو ربما كان جاسوساَ للموساد، لم يستطع احد أن يفك شفرة العم طارق. هو رجل في منتصف الخمسينات ذو شعر خفيف يتخلله بعض الشيب أنفه شبه أفسط لونه وجه يميل إلى السمرة مع خدود شبه مترهلة عليها بعض الخطوط وهي مثل الخيوط الرفيعة، أسنانه ناصعة البياض لرجل في عمره، يتدلى حنكه قليلاً إلى الأسفل، جسمه ممتلئ متناسق كلياً مع وزنه وطوله، لا احد يعرف عنه سوي أنه العم طارق صاحب المقهى الأنيق الذي يصنع ويقدم المشروبات لرواده.

وواصلت قائلة بعد أمعنت النظر في عينيي:

هذا كوب قهوة بزنجبيل زائد ودفعته إلي.

قلت في سري أهذه أيضاً محض مصادفة؟

 فالأولى كانت دعوة إلى إحتساء قهوة في نهار قائظ، وهذه الثانية القهوة مع زنجبيل زائد حتى من دون أخذ رأيي، فمن الذوق أن تسألي عن كمية السكر والزنجبيل غيره، يبدو أنها على معرفة بتقاليدي وأشيائي، أم أن ذلك مجرد صدف عابرة لا أدري.

فتاة المقهى — الجزء الثاني

قصص مشابه:

المرأة التي سمع الله صوتها

قصة نفساني